انقلابات ضد مايو
♟️الثالثة والنصف ظهرا يوم ١٩ يوليو ١٩٩٧١ .. الاعتقال المهين
♟️القبض على رئيس مجلس الثورة ونقله حافي القدمين في "كومر" مكشوف
♟️قصر الشعب يتحول إلى ثكنة اعتقال مدججة..!!!
كتب : حافظ الامين
١- قبل ساعة ونصف من ذهابهم إلى المطار اتجه عضوا مجلس قيادة الثورة الرائدان ابو القاسم محمد ابراهيم ومأمون عوض ابو زيد إلى منزل زميلهم ضابط المدرعات المقدم عبد المنعم الهاموش الواقع في حي المطار السكني تلبية لاقتراحه في تناول الغداء معه قبل توجههما إلى المطار لمقابلة عضو المجلس زين العابدين م.ا. عبد القادر العائد بطائرة الخطوط المصرية من القاهرة بعد تمثيله للرئيس نميري في اجتماع على مستوى القمة كان قد انعقد في المدينة الساحلية المصرية "مرسى مطروح" للدول الموقعة على ميثاق طرابلس (ديسمبر ١٩٦٩). حضر تلك القمة الرؤساء أنور السادات، حافظ الاسد، معمر القذافي واعتذر نميري واوفد عنه عضو مجلس الثورة الرائد زين العابدين
٢- تغدى الضباط على مائدة زميلهم الهاموش وبعد الغداء استأذنهم الخروج (لموعد وأمر هام) يخصه واحضر لهم طاولة للعب "الضمنة" لتزجية الوقت قبل ان يحين موعد توجههم إلى المطار القريب من البيت. بدأ الرجلان في لعب الضمنة وانضم اليهما زميلهم عضو مجلس قيادة الثورة الثالث ابو القاسم هاشم. بعد حوالي الساعة تحرك اعضاء مجلس قيادة الثورة في عربة واحدة الى مطار الخرطوم واستقبلوا زميلهم زين العابدين ثم توجهوا معا مباشرة الى منزل رئيس مجلسهم.
٣- ترك صاحب الدار "عبد المنعم الهاموش" ضيوفه الثلاثة بعد اكرامهم وخرج مباشرة إلى سلاحه (المدرعات) بمنطقة الشجرة ليقود لواء الدبابات وتنفيذ انقلاب حزبه الشيوعي السوداني. كان هذا بالضبط هو ذلك "الأمر الهام" الذي ذكره لضيوف منزله.
٤- يواصل الرائد زين العابدين رواية هذا الحدث في فصل من كتابه "مايو .. سنوات الخصب والجفاف" ويقول انهم وصلوا إلى بيت الرئيس وايقظوه من نومته واطبقوا عليه بالسلام وكان يرتدي جلابية، الا ان الرائد مامون ع. ابو زيد لاحظ عند دخولهم إلى البيت أن كتيبة حراسة مقر اقامة الرئيس ليست ذاتها هي التي يعرفها وان وقفتهم وعددهم وطريقة انتظامهم لم تكن كما يجب وكان الرجل -حينها- مسؤولا عن أمن الثورة وأمن قيادتها، فسأل عند المدخل عددا من جنود الحراسة لماذا هم كذلك واجابوه فاستغرب الامر وما حدث فيه من (تدخل) وعندما دلف مع زملائه إلى بيت الرئيس كان مهموما بتقصي ملاحظاته فترك كل شي واتجه مباشرة إلى جهاز الهاتف الموجود قرب سرير الرئيس وبدأ في الاتصال بمن أراد للاستقصاء، وفي هذا اللحظة والجمع لم يجلس بعد، دهمت كوادر الحزب الشيوعي العسكرية المسلحة مقر الرئيس بواسطة قوة يقودها احد غلاة كوادره -كما سوف يتبين لاحقا- الا وهو الملازم اول احمد جبارة على رأس فصيل مسلح وامروهم بالخروج أمامهم مستسلمين، حاول الرائد ابو القاسم محمد ابراهيم التصدي وهو اعزل للملازم جبارة لتعنفه واهانته العسكرية ولكن نميري منعه وطلب منه الانصياع وخرج أعضاء مجلس قيادة الثورة الاربعة مع رئيسهم دونما اي مقاومة. (كان خامس اعضاء المجلس اللواء خالد حسن عباس) في رحلة رسمية خارج السودان، سوف نعرض لامرها لاحقا).
٥- كانت مهمة القاء القبض على قيادة الثورة وكيقية نقلها وايواءها وعزلها عن كامل الجيش قد اعدت اعدادا دقيقا من قبل القائد المحوري للانقلاب (المقدم عثمان حسين ابو شيبة، ضابط سلاح المدرعات الذي عين مترقيا في ١٩٧٠ قائدا للحرس الجمهوري (وصفه رجل الحزب والدولة احمد سليمان في احد مقالاته بأنه كان "أخطر كادر سري" للحزب الشيوعي داخل الجيش) .
٦- اعد الانقلابيون عربتا لاندروفر ستيشن لتقل أعضاء مجلس الثورة الأربعة اثنين في كل عربة من بيت الرئيس إلى غرف اعتقال خصصها ابو شيبة لتلك الغاية من بين غرف قصر الشعب المكتبية بالطابق الأرضي ووزعوا عليها ليكون كل واحد منهم في غرفة بمفرده. في احد تلك الغرف تم الاعتقال لاحقا خلال اليوم للمدنيان: نائب رئيس مجلسي قيادة الثورة والوزراء مولانا بابكر عوض الله إلى جانب وزير الرئاسة فاروق ابو عيسى.
٧- اما رئيس مجلس قيادة الثورة (اللواء جعفر نميري) فلقد قرر مخططوا الانقلاب أن يفرزوه عن زملائه وان يعاملوه معاملة "خاصة" مقصودة ومرتبة، كيف؟
٨- اعد الانقلابيون عربة نقل جنود كومر (COMMER) مكشوفة السقف، منزوع عنها غطاءها المعروف انئذ من القماش الثقيل، كانت سطح العربة من الحديد "الصاج" وقد ترك ساعات للتعرض الى حرارة الشمس قبل احضاره.
٩- اقتيدت المجموعة الأولى من المعتقلين إلى سجن ابو شيبة الجديد الذي هو مبني سيادة الدولة الذي كانت دولة ٢٥ مايو قد اسمته "قصر الشعب" بدلا من "القصر الجمهوري" حيث لا يمكن لأحد من الخلق ن يتصور ذلك. بعد أن تحركت عربتا اللاندروفر بصيدهما، نودي على الرئيس نميري وحده وأمره الملازم المحاط بجنوده المختارة ان يصعد الى العربة "الكومر". طلب الرئيس من القوة المعتقلة ان يسمحوا له بارتداء الحذاء ورفضوا طلبه وفهم ان هذا هو المطلوب وهو المخطط له امعانا في الاهانة، فصعد اللواء اركانحرب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء حافي القدمين إلى سطح الكومر. امر قائد الفصيل الرئيس نميري أن يظل واقفا ويداه فوق رأسه بينما جنود الانقلاب يحيطون بأطراف الكومر يحرسونه.
١٠- خرجت العربة الكومر (عربة نقل عسكرية تشبه عربة النقل التي يطلق عليها اليوم مسمى "الدفار") من القيادة العامة واتجهت من شارع الجيش إلى شارع الجامعة ثم انحرفت يمينا إلى شارع النيل حتى بلغت مبنى الرئاسة (قصر الشعب) والرئيس المعتقل على تلك الحالة، قال ان الجو كان حارا وان الشوارع كانت شبه خالية الا انه رغم ذلك كان يستمع إلى من يشاهدون ذلك (المنظر) عند مرور الدفار العسكري في محاذاتهم يتغالطون أن كان هذا الواقف في العربة نميري ام لا (معقول يكون دا نميري؟).
١١- وصل الدفار العسكري (الكومر) إلى محطته داخل قصر الشعب وتم إنزال الرئيس وايداعه في غرفة مكتبية في الطابق الثاني من المبنى خالية من كل شي سوى من "كنبة" لينام عليها وتم اغلاق الغرفة عليه اغلاقا تامة ووضعت امامها حراسة مسلحة.
١٢- على هذه الحالة أمضى الرئيس نميري ايام اعتقاله الثلاثة مقطوعا تماما عن العالم لا يعرف حتى مكان الذين كانوا معه في منزله ساعة اعتقاله، أين هموا الان وما مصيرهم بينما هم الى جواره في ذات المبنى.
١٣- اياما ثلاثة لم يفتح فيها هذا الباب سوى ثلاث مرات في كل مساء مرة ليزوره فيها قائد الانقلاب الميداني صديقه ومرؤوسه السابق في قاعدة جبيت العسكرية وفي حامية الشجرة الرائد هاشم العطا، الى جانب تلك المرات التي يدفع فيها اليه بصحن الاكل، اما الماء والحمام فلقد كان ملحقا بالغرفة ولم يحتج لان يخرج له.
١٤- في هذه المرات الثلاث كان من يدخل على الرئيس فقط هو هاشم العطا، يدلف وهو يحمل مسدسا بين يديه يديره على حلقته حول اصابعه صامتا دون ان يجري اي حوار او أسئلة او تحقيق مع الرئيس-الغريم الذي امامه، كان فقط يكتفي بسؤاله "كيفك الان؟"، ويرد عليه الرئيس متكفيا "الحمد لله" ويعود إلى رقدته معطيا ظهره إلى زائره.
يتبع ....
_____________________________________________
انقلاب محمد نور سعد
في ذكري 2 يوليو ١٩٧٦
بقلم : التجاني الكارب
كنا مجموعة من طلبة جامعة الخرطوم في السنة النهائية سافرنا إلى ألمانيا في رحلة أكاديمية ، وكان الضابط محمد نور سعد في بعثة رسمية من الجيش السوداني بألمانيا ، فتعرفنا عليه ،
وظل يدعونا إلى منزله في عطلات نهاية الأسبوع "يوم الأحد" لنستمتع بالأكل السوداني.
و توثقت صلتنا به فقد كان شخصية مرحة مضيافاً وكريماً ويهتم بالآخر وفيه طفولة بريئة.
ورجعنا إلى السودان ، واستمرت صلتنا به عبر الرسائل..
وبعد فترة رجع محمد نور سعد إلى الجيش وبالتحديد إلى “سلاح الأسلحة”. كان هذا تقريباً في الفترة بين عامي 1970-1971م ، واستمرت العلاقة الاجتماعية بيننا ، كان يزورني في البيت ونلتقي مساءً ونخرج معاً.
رتبته في ذلك الوقت “رائد” ، وكان غير راضٍ عن الوضع في الجيش ويتكلم عن ذلك كثيراً ، ويشعر بالضيق لأنه محاصر ومراقب بواسطة الاستخبارات العسكرية. كانوا يتوجسون منه ويشعرون أن لديه نشاطاً غير مألوف ، ففكر أن يغادر البلاد.
(حا تندموا)..
ولاحقاً التقيت بالضابط ميرغني سليمان وكان يشغل منصب رئيس الاستخبارات فحكى لي قائلاً : " كنا نرصد نشاط محمد نور سعد ونحاصره تماماً. لكنه قال لنا أرجوكم خلوني أخرج من السودان أنا عندي أسرة هناك في ألمانيا"..
ولكن الرئيس جعفر نميري كان يمانع في ذلك تماماً. وعندما ألح علينا كثيراً - والحديث لا يزال لرئيس الاستخبارات العسكري - "ذهبت بنفسي إلى نميري وقلت له إن محمد نور يلح في طلب السماح له بمغادرة البلاد ولم نرصد ضده شيئاً"..
الرئيس نميري لم يوافق ، ولكن بعد تكراري الطلب ثلاث مرات أخيراً وافق..
وقال لنا نميري : "خلوه يخرج لكن حاتندموا"..
انتهت إفادة رئيس المخابرات الضابط ميرغني سليمان.
وفعلاً سافر إلى ألمانيا ، البلد الذي يرتاح إليه لأنه يجيد الألمانية وله علاقات وزوجته هناك وله منها طفل.
ومرت الأيام والسنوات..
وفي سنة 1975 كنت في لندن وأجريت عملية جراحية بشكل مفاجئ ، سمع محمد نور سعد بذلك وهو في ألمانيا فزارني في لندن وألححت عليه أن يبيت معي لكنه أصر على الرجوع في نفس اليوم..
من الكلام الذي دار بيننا لاحظت أن عقله مشغول بشيء ما.
لكن لم أتصور إطلاقاً أن يكون هذا الشيء انقلاباً عسكرياً بأيدي مدنية.
لم أكن أعلم بترتيبات انضمامه للجبهة الوطنية والتي كانت تضم رموز المعارضة السودانية وتنشط من ليبيا بدعم من القذافي. لكن لاحقاً علمت أن الدكتور عمر نور الدائم - أحد قيادات الجبهة الوطنية - كانت له صلة بمحمد نور سعد لتزاملهما في ألمانيا ، فاستغل هذه الصلة ليقنع محمد نور سعد بقيادة الحركة المسلحة التي سعت لإسقاط نظام الرئيس جعفر نميري.
وطبعاً لأن محمد نور سعد ينحدر من أسرة أنصارية فسهل ذلك اقتناعه وانضمامه للجبهة الوطنية.
كل هذه التطورات لم يكن لي بها علم إطلاقاً منذ آخر مرة فارقت فيها محمد نور سعد.
وجاء القدر ..
إلى أن وقعت واقعة الجمعة الثاني من يوليو عام 1976، وألقى القبض على محمد نور سعد الذي كان قائداً للعملية. كنت مندهشاً لذلك ، فهو صديق قريب مني وكان يفترض أن أكون على علم بوجوده في السودان ، فقد دخل السودان سراً وظل متخفياً في الخرطوم قرابة الشهرين قبل العملية العسكرية ، ولسخرية القدر اتضح لي لاحقاً أنه كان يقيم في المنزل المجاور لمنزلي بحي العمارات في الخرطوم.
السلطات نجحت في القبض على محمد نور سعد خلال محاولته مغادرته الخرطوم بعد فشل المحاولة الانقلابية المسلحة.
زيارة مفاجئة..
بعد أيام من فشل الانقلاب كنت في بيتي بشارع 13 بحي العمارات ، فجأة ودون موعد جاءني الرائد مأمون عوض أبوزيد وكان يشغل منصب وزير الداخلية. كان مأمون صديقي ونلتقي كثيراً.
قال لي الرائد مأمون : "يا أخي التجاني، محمد نور سعد التقى بالرئيس نميري في المعتقل وجلس معه منفرداً ، الرئيس أمرنا الاستجابة لكل مايطلبه محمد نور سعد ، وقد طلب أن يقابلك أنت بالتحديد" ، وقال لي الرائد مأمون إنه من باب الاحتياط رد على محمد نور سعد أن التجاني الكارب كثير التسفار وقد لا يكون موجوداً بالخرطوم ، وكان الرائد مأمون يقصد أن يمنحني فرصة الاعتذار عن مقابلة محمد نور سعد - دون حرج - بحجة السفر ، إذا لم يكن لي رغبة في مقابلته..
لكني قلت للرائد مأمون أن محمد نور سعد صديق كيف أرفض مقابلته ، بالعكس يسرني أن التقيه. أخبرني مأمون عوض أبو زيد أنه سيرسل لي سيارة تقلني إلى حيث يعتقل محمد نور سعد. حينها كان مأمون وزيراً للداخلية ، وفعلاً في اليوم التالي أرسل لي سيارة عسكرية في حوالي الساعة الثامنة ليلاً ، وكان حظر التجول يسري من الساعة السادسة مساءً حتى الصباح.
اشتباك عالي المستوى..
أقلتني السيارة العسكرية إلى وزارة الداخلية على شارع النيل حيث مكتب الرائد مأمون عوض أبوزيد ، المنظر في المكتب كان مثيراً للدهشة ، على جانبي المكتب كان هناك سريران ، رأيت الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم راقداً على السرير الأول وعلى السرير الآخر يرقد الرائد زين العابدين محمد أحمد، الرجلان كانا يرتديان البنطلون الكاكي بينما خالعان البدلة العسكرية ويظهران بـالفنالات الداخلية..!!
التوتر كان واضحاً على الجميع ، جلست قليلاً مع الرائد مأمون ثم وقف وطلب مني أن نذهب. هنا بدأ فصل عجيب من الإثارة الدرامية، الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم هبَّ واقفاً وقال لنا : ماشين وين؟ أجابه مأمون : إننا ذاهبان لمقابلة محمد نور سعد ، كانت مفاجأة صاعقة بالنسبة لي ، رأيت الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم ينفجر قائلاً : "ما قلت ليكم سيبونا من الحاجات الفارغة دي...
ودون سابق إنذار اشتبكا بالأيدي وتدخل الرائد مأمون بينهما ودفعهما بعيداً عن بعضهما، ثم التفت إليَّ قائلاً : "لا تؤاخذنا يا أستاذ لكن هذه حالنا كل يوم بالطريقة دي"..!!!
إلى القيادة العامة..
أخذني الرائد مأمون عوض أبوزيد إلى القيادة العامة للجيش، قابلنا الضابط عبد العزيز دياب من الاستخبارات العسكرية وكان مسؤولاً عن حراسة العميد محمد نور سعد. أجلسني في أحد المكاتب وقال لي مأمون إنه كان يشغل هذا المكتب عندما اشترك في انقلاب 25 مايو 1969.
لم يمر زمن طويل حتى سمعت أصوات السلاسل الحديدية، كان محمد نور سعد في طريقه إلى المكتب الذي نجلس فيه.
وجاء محمد نور سعد..
ودخل محمد نور سعد. كان وضيئاً لم تفارقه ابتسامته البريئة، جلس في الكرسي الذي يجاورني وخرج مأمون عوض أبوزيد وتركنا معاً.
حاول محمد نور سعد تنبيهي - بإشارة صامتة - أن انتبه لاحتمال وجود أجهزة تنصت في الحجرة..
جلسنا أكثر من ساعة. كان مرحاً وعادياً كأن شيئاً لم يكن، بدا مهتماً بالسؤال عن الأحوال والاطمئنان أن لا يكون هناك من أصابهم أذى من العملية العسكرية وطلب مني نقل اعتذاره الشخصي لكل من تأذى من العملية.
ثم حكى لي بعض تفاصيل وأسرار الحركة الانقلابية وسبب الفشل، ثم قال لي بصوت منخفض: "إذا جاتك سفرة خارج السودان ، الكلام البقولوا ليك بلغوا الصادق المهدي والشريف حسين الهندي"..
المساومة..
حكي لي محمد نور سعد أن الرئيس نميري عامله معاملة ممتازة وودودة وطلب له القهوة والبارد وأخبره أنه ليس غاضباً عليه. وأخبره أنه أعطى تعليمات للاستجابة لكل طلباته.
محمد نور سعد أخبرني أن نميري قدم له (صفقة)، مقابل العفو عنه أن يجيب على سؤال واحد فقط، ذكر له اسمي مسؤولين كبيرين في الدولة وطلب من محمد نور سعد أن يجيب بـ( لا أو نعم) هل كانا يعلمان بوجوده في الخرطوم قبل تنفيذ العملية العسكرية؟.
محمد نور سعد رد على الرئيس نميري بأنه سيكشف له كل أسرار العملية العسكرية بشرط واحد، هو العفو عن (90) عسكرياً، جاءوا معه وهم الآن معتقلون في معسكر الشجرة، وأن ينقلوا جواً إلى خارج السودان.
سألت محمد نور سعد هل تقصد أن ينقلوا إلى ليبيا رد عليَّ بأنهم يأمنون على أنفسهم فقط في اي بلد تصون العهد.
لم يكن يظهر على وجه محمد نور سعد أي قلق رغم يقينه أنه ذاهب إلى الموت لا محالة.
أوصاني على والديه كثيراً وأخبرني أنه لديه أثاث منزلي في حي المطار، أما أن يسلم إلى والديه أو يباع ويسلم العائد إليهما.
انتهت زيارتي للعميد محمد سعد نور، ثم سافرت بعدها إلى لندن. كان من الصعوبة بمكان مقابلة الشريف حسين الهندي ففضلت أن التقي الصادق المهدي.
مع الصادق المهدي..
كانت لي علاقة صداقة بشقيقته “شامة الصديق المهدي” وزوجها “حسين مأمون” صديقي، وكنت أزورهم دائماً كلما جئت لندن.
اتصلت بحسين وأخبرته بأن لي وصية للصادق المهدي وطلبته من أن يعلمه برقم هاتفي ليتحدث معي.
فعلاً اتصل بي الصادق المهدي فأخبرته أن له رسالة من محمد نور سعد تتطلب أن نلتقي كفاحاً. قال إنه سيعاود الاتصال لترتيب مكان وزمان اللقاء.
أوفى بوعده فاتصل وحدد لي مكاناً في فندق صغير بشمال لندن، كان واضحاً أن الصادق يحاول تجنب الرقابة والرصد، التقينا ونقلت له ما قاله لي محمد نور سعد.
من الطريف، أن الصادق المهدي حضر حاملاً رزمة أوراق بيضاء وقلماً وظل يدوِّن كل كلمة أقولها له، واستغرب كيف اعتمد على ذاكرتي فقط في نقل وصية محمد نور سعد، وقال لي: حاول دائماً التوثيق كتابة للدقة والتاريخ.
لم أستطع مقابلة الشريف. وخلال فترة وجودي بلندن أجريت المحاكمات التي أصدرت حكم الإعدام على محمد نور سعد ورفاقه.
مشاهد من المحكمة
بعد عودتي من لندن قابلت الضابط الذي كان مسؤولاً عن الحراسة أثناء المحاكمات ثم تنفيذ الإعدام فحكى لي تفاصيل ما حدث.
قال لي الضابط إن المحكمة شهدت وقائع مثيرة جداً، فعندما طلب القاضي من محمد نور سعد ذكر الأسباب التي قد تساعد على تخفيف الحكم عليه، صاح فيه أبوه وكان حاضراً (يا محمد نور ما تنكسر ليهم.. ما تنكسر ليهم)..أي لا تقدم أي سبب لتخفيف الحكم. لكن شقيقته وأسمها “الرضية” والتي كانت موجودة في القاعة حاولت أن تثني محمد نور وتذكره أنهم بحاجة إليه، فما كان من الأب إلا أن صرخ فيها بأعلى صوته (ما تخربي قلبو.. ما تخربي قلبو) وحاول ضربها بعصاته وطردها من قاعة المحكمة.
والده “سعد” كان شديد الشبه بابنه محمد نور، وكان رجلاً صبوراً مؤمناً وثابتاً.
الضابط الذي أشرف على تنفيذ الإعدام حكي لي أنه طلب من محمد نور سعد قبل يوم من تنفيذ الحكم أن كان له حاجة يطلبها، ففوجئ به يطلب “ماكينة حلاقة” ومشطاً وزجاجة عطر “كلونيا”. وفي الصباح كان متزيناً حليق اللحية ومنظماً لشعره وأنيق الملبس كأنه “عريس” يزف إلى عروسته.
ليلة التنفيذ
وركب السيارة العسكرية، وكان الضباط والجنود واجمين، بينما هو منشرحاً يمازحهم، قائلاً لهم: (أنتو مالكم كده..أنتو الماشين تموتوا ولا أنا.) ثم يضحك.
سارت السيارة مخترقة شوارع مدينة أم درمان إلى “الدروة” موقع عسكري يستخدم لضرب النار. أنزلوه في حفرة ثم بدأوا في إطلاق النار عليه، الرصاصة الأولى أصابت الجزء الأسفل من جسمه فصرخ محمد نور سعد بأعلى صوته في الجنود (يا عسكري نشن كويس.. نشن فوق..).
وطوت رمال المرخيات الجسد الطاهر، لتطوي معه قصة رجل ظل حتى آخر قطرة من عمره قوياً وسيماً مبتسماً محباً لوطنه.
منقول
===================
تعليقات
إرسال تعليق