ذكرى رحيل العملاق وردي
بمناسبة ذكري رحيله السنوية
الفرعون "وردي" ..و الغيابُ الكثيفُ الحضور !!!
مهدى يوسف إبراهيم
....
توطئة أولى
في زقاقٍ يفصلُ بين الماءِ و النار صادفتُه.. كانت محبوبتي حينها تحتسي القهوةَ بين نبضتي الأول و نبضتي الثانية ... تأملتُ عينيه العزيزتين كما الطمي ....و قامته التي تحاكي انحناءةَ النهر ... سألني في هدوءٍ عظيمٍ
- يا غلام ... متى تصبحُ الذاكرة تابوتاً للذكريات؟
قلتُ له بهدوءٍ " مهاتمي" الحكمة
- حينُ يصبحُ المغنون مهرجين في الحانات الرخيصة ..
مسحً عينيه بشجنٍ ثم تلفت في شوارع الخرطوم الفوضوية و سألني
- تقولُ الغيمةُ إن "القيثارة" رحل !!
قلتُ له مبتسمًا في مرارة
- ألا ترى سماوات الغناء سقفاً من اسمنتٍ يوشكُ أن ينقض على النهر القديم ؟
سألني وعيناه تضيئان كما شمسين
- و ما لذي حمله معه " وردي " حين غادر؟
قلتُ له في يقين هائلٍ
- حمل عافية الأغنيات و نهارات اللحون !!
ابتسم ثم استطرد وهو يقفُ مستندًا على عصا حزنه
- كان الشارعُ محمولاً على كتفي صوته ...
قلتُ له وأنا ابتعدُ عنه كما الظلال
- وكان الوطنُ والجمال يسكنان قامته النخلة
..............................................
توطئة ثانية
حين زرتُه في بيته للمرة الأولى ..جلستُ قرب ساقيه الطويلتين ..و طفقتُ أتحسسُهما في لا تصديقٍ هائل ..سألني بأدب جم " لم تتحسس ساقيّ ؟" ...قلتُ له في جديةِ عظيمة " أريدُ أن أتأكدَ أنك إنسانٌ مثلنا ...لا برق "
..........
لم تكن مصادفةً أن يكونَ "وردي " سليلَ حضارةٍ امتدت جذورُها في تراب التاريخ الإنساني آلاف الحقب، و قدّمت للدنيا صهرَ الحديد و ساهمت في اختراع الكتابةِ و في ترسيخ العبادة و الدين .. و لعلّ القدرَ كان يشيرُ - بهذا الانتماء الباذخ العراقة - إلى خلودٍ سيركضُ فيما بعد وراءَ الصبي "محمد عثمان حسن وردي " كما تركضُ "خيولُ الريحِ في جوف العتامير" .. و الحقُّ أنّ "وردي" ظلّ وفيًا لأرواح أجدادِه الشاهقة الصمود تلك، فلم يعرف الانصياع حين تنازل جنرالات الجيش عن " حلفا القديمة" للطاغية " عبد الناصر" و لم يسكن "مدينة نعم" في المظاهرات ضد " عبّود" و في سجون "نميري"، أو حين غرس المرضُ الخنجرَ في خاصرة عافيته خلال سنوات الإنقاذ العظيمة العفونة !! ..إذ ظلّ "وردي " كما هو .. النوبي الفائض عنفوانًا ، المملوء ثقة بالنفس ، ( المستف ) اعتدادًا بحضارته و جذوره !!
يولدُ الأطفالُ عادةً في مهد قماشٍ ما ... لكن ما كان لوردي سوى أن يُولدَ بين ذراعي النيل و تختلطَ صيحتُه الأولي في الوجود بزئير الموج و هو يعلّم ربوةً معنى العنفوان ... هناك في قرية "صواردة" التي يحفٌها "النهرٌ القديمُ" كما السوار تربّى الصبيُ في جنانٍ خُضر أرهفت حسَّه و رفدت ذائقته بمعينٍ من صورٍ جماليةٍ طرّزت ألحانه العِذَاب فيما بعد ... بعد "صواردة " شدّ الصبيُ الرحالَ تلميذًا صغيرًا إلى مدينة " عبري " حيثُ عانق آلته الموسيقية الأولى: صفارته الحديدية !!! هكذا إذن تحوّلُ النيلُ – المهادُ الأوّلُ - إلى ملهمٍ للمغنى العظيم، يستمدُ من ثوراته الثبات ، و يرى حبيبته تخرجُ من شهقة جروفه مع الموجة الصباحية !!
لم يكن مصادفةً أن يُولدَ "محمد وردي" في ذات العام الذى رحل فيه العبقري "خليل فرح"...لعلّ ميلاده كان تعويضًا سماوياً عن تحليق صاحب " عزّة في هواك" في سماوات الموت... و لعلّها إشارة قدرية إلى أن سِفر الإبداع يظل متصلًا في هذا البلد المحزون ..لا تٌفني فنونَه ثرثرةُ البنادق و لا رطوبةُ السجونِ و لا تثاؤب أحزمة الجنرالات على كروشهم الخبيثة !!!
لم تكن مصادفةً أن يفقد "وردي" أمه و هو في شهره الثالث ويفقدَ أباه و هو في عامِه الثاني لتتكفل جدتُه و عمٌه بتربيته . هل كان القدر يهيئُه كي يكون صلدًا لسجونٍ قادماتٍ، ومظاهراتٍ ستكون أغنياتٌه وقودَ جمالِها الأوّل؟ هل حرَم القدرُ "وردي" من أسرته الصغيرة كي يكون السودانُ، بل إفريقيا، بل الإنسانيةُ جمعاء هي أسرته الكبرى ؟ ألم يتغنّى "وردي" للمناضل " باتريس لوممبا" و هو لم يزال شابًا نحيل الجسد؟ ألم يتغنّى لأحلام الكوكب الأرضي الخيّرة حين قدِم القرنُ الحادي و العشرون و ذلك في أغنيته" تلفون العالم حوّل ، اتنين تلاتة أصفار " ؟ و لعل خطواتِ الصبي اليافع على شاطئ النيل بحثًا عن أمٍ ذهبت ألهمته فيما بعد أن يصبحَ مغنيًا للحب لا يُعلى عليه في " حزنه القديم " و " جميلته المستحيلة " و " ودّه " و " من غير ميعاده …"
لم تكن مصادفةً أن ينشأ الصبيُ في مجتمعٍ نوبي لا يعرفُ العربية. فالقدرُ كان يعدُّه أن يتحوّل فيما بعد إلى جسرٍ يربطُ الثقافة العربية و النوبية في السودان . بل إن القدرَ اختاره ليربطَ السودان بمجتمعاتٍ عربيةٍ و افريقيةٍ كثيرة ، فطرِب له عشاقُ أثيوبيا و ثوارُ الجزائر و مناضلو ارتريا و مثقفو الكنغو ليتحولَ "وردي" إلى رمز افريقي عظيم مثله مثل جومو كينياتا و نيلسون مانديلا و مريم ماكيبا !!
و رغم نظرة الأعراب العجفاء للإبداع السوداني إلا أن "وردي" اخترق بعض العواصم العربية كحد السيف .. و ربما لو استقر الفرعون في القاهرة قليلًا عقب فراغ " اندريرا رايدر " من توزيع رائعة" الود " لتغيرت خارطة الغناء العربي تمامًا .. بل إن أوربا عرفت قدر الرجل ففاز في العام 78 بجائزة "نيرودا" الموسيقية في هولندا و هي جائزة تمنح سنويًا لمبدعٍ واحد فقط على نطاق الكون !"
لم تكن مصادفةً أن يعمل "محمد وردي" في بدايات حياته المهنية معلمًا في قرية "فركة " التي شهدت نضالَ المهدية المرير مع المستعمر . فهناك أتيحت للمعلم الفرصةَ لاستنشاق عبق تاريخِ سيذودُ عنه يومًا ما ، و هناك ازداد حبُه لبلاد سيصبح يومًا ما مزمار داؤودها الأول !! هناك مزج "وردي" بين تدريس اللغة العربية و الغناء و ذلك عبر تلحينه لأناشيد مثل " دجاجي يلقط الحب و يجرى و هو فرحانا " !! فكان التلاميذُ يقومون بترديد أناشيده . و حين قدم الى "الخرطوم" في الخمسينات جعل من تلاميذه في المدرسة كورالا عبقريا في إلياذته الوطنية " يقظة الشعب " . و لعل القدر زجّ به في التعليم ليتحول إلى معلمٍ لوطنٍ قارة، و لتتسع رقعةُ فصله الطيني الصغير في "فركة" إلى أثير يتمددُ حتى بعد رحيله عن الدنيا !!
و لعلها من ترتيبات القدر الغريبة أن يعمل الشاب الرطان معلما للغة العربية و التربية الإسلامية في "فركة " ثم في " شندي " . ولعل القدرَ كان يعدُّه ليتغنّى فيما بعد بروائع الشعر الفصيح مثل " الحبيب العائد " و " مرحبًا يا شوقُ " و " عُرس السودان " .. في أمسيات "شندي" تحوّل المعلمُ الشاب إلى حديثٍ لم يمل الناس ترديده . صدح صوته النوبي الرنان كالأجراس في ديار عربية ، ذلك لأن التاريخ يقول إن لوردي معجبين لا يفهمون ما يقوله على الإطلاق . إن الذين تحلّقوا حوله في أديس أو معسكرات الجنوب ما جاءوه إلا استجابةً لعبقرية الصوت ، و سمو الألحان و تفرد الأداء !!!
و لعل القدر كان يعدُ معلم اللغة العربية الأعجمي ليفتحَ رؤاه فيما بعد على روائع شعراء بلادي فيتغنّى لأبى آمنة حامد " الهدندوى" و لإسحق الحلنقي " الحلنقي" و لاسماعيل حسن "الشايقي" و لمرسى صالح سراج "النوبي" بل و لأمل دنقل "المصري" ... و ليتحوّلَ المغنّى العظيم إلى معبدٍ من جمال يطوف حول محرابه كلُ شاعرٍ فذٍ ليرسم على جدرانه قصيدة عذبة !!!
يقول عاشقٌ متطرفٌ لوردي إنه لم تكن مصادفة أن يكون "وردي" طويل القامة كالنخلة ..فالرجلَ الذى قال عنه "ابو أمنة حامد" يوماً إنه يملأُ المسرح هيبةً و حضورًا ما كان له أن يكون تجسيدًا لعنفوان الشارع السودان لو كان قزمًا قصير !!
إن حياة "وردي" هي حياةُ رجلٍ عاش لأجل فكرة، و نافح عنها حتى الممات .. و قصةُ حياة "وردي" مع الطواغيت هي قصةُ الوردة و البندقية و قصة الفجر و العتمة. قالوا لي إن صبية المدينة حشدوا عرباتهم المدججة بالعساكر يوم دفنه خشية أن يتحولَ الأمر الى ثورة. حينها ابتسمتُ و همست لنفسي " ما أعظم الأموات الذين يخيفون الأحياء" !!!
عزيزي "وردي .."
أعوام تنقضي على رحيلك المر ..لكنك تبقى كثيف الحضور و العنفوان فينا !!!
🌹🌹🌹🌹🌹🌹💞🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹
--------🪢-------
*وردي ..ياسلام منك انا ....اه*… 💜
في المدرسة الابتدائية التي درس فيها محمد وردي، كان ناظر المدرسة يسترق السمع له من وراء الشُّباك، ووردي يغني بين فواصل الحصص.
الناظر كان اسمه (إبراهيم عمر النحاس)، كان كلما يسمع وردي يغني وهو يتخفى خلف شباك الفصل يقول له: (والله صوتك جميل.. غنى يا ولدي).. لم يكن يمنعه، بل كان يسترق السمع له وهو يتوارى خلف شبابيك الفصول.
وردي حكى عن هذا الموقف، وقال إن الناظر كان يمسكه من (أضانه) ويقول له: (إنت يا ح تطلع مشخصاتي يا مُغني)!!
ويتذكّر وردي في حوار معه قبل رحيله ويقول: في عام 1960 كنت أقدم أغنية (بعد أيه) في المسرح القومي، تفاجأت بعد انتهاء الفاصل بناظر المدرسة (إبراهيم عمر النحاس) مع بناته السبع يأتي له ويقول له: أنا ما قلت ليك ح تبقى فنان.. الناظر كان بنفس العصا التي كان يحملها في المدرسة ونفس الإعجاب والترقُّب الذي كان منه عندما كان وردي طالباً.
الناظر قال لمحمد وردي وهو يشير إلى بناته السبع: “يا محمد أنا ما عندي قروش، البنات ديل وقت يعرسوهن أعمل ليهن حفلاتهن. كان وردي وفيا وحضورا في زيجات بنات الناظر السبعة وقد أحيا لهن حفلات زواجهن.
مُنح وردي الدكتوراة الفخرية من جامعة الخرطوم في عام 2005م تقديرا لمسيرته الفنية العامرة بالأغاني الجميلة و المتنوعة، و التي تزيد عن 300 أغنية.
الأغنية الثالثة في مسيرة الموسيقار محمد وردي كانت أيضاً من كلمات الشاعر ( اسماعيل حسن ) وهي أغنية ( قبل الوداع ) المعروفة بمقطعها الاول ( يا سلام منك أنا آه ) وكان لحنها أيضاً من التراث النوبي وتمت معالجة اللحن بواسطة الملحن ( خليل احمد ) ويقول الموسيقار ( محمد وردي ) أنه لم يلجأ أبداً إلى تعريب الألحان النوبية في تلك الفترة لعدم بزوغ ملكتة في التلحين بل كان كل همه هو تجريب التراث النوبي وإدراك مدى قبوله وتقبله وكان يحس بأنه لونية جديدة قد تهبه خصوصية وتفرداً.
يا سلام منك أنا آه
يا سلام . . يا سلام
العيون فيها سهام
والكلام فيهو كلام
في حديثك
في ابتسامتك
زينة يا أحلى غرام
لديارك جيت يا روحي ليك أزور
ومن كلام الناس والله قد ضاع السرور
في إيديا ليك هدية
سامحيني واعذريني
واقبليها يا بدور
العواذل قالوا ليك
قالوا إيه
قالوا بحب
والله إنت وبس
إنت في قلب المحب
حسدوني
ألموني
عذبوني
بدلوني الفرحة نار وهيام يوم الغرام
إنت لونك
وإنت طبعك
هادي ما فيهو البشين
تشبهي الفل في الجناين ..
حتي عطرك ياسمين ..💕🌿🎋💐
تعليقات
إرسال تعليق