سواق اللوري

ذكريات مدرس  


يونيو من العام ( 1966) !! 

✳️ إنتهت إجازة المدارس.

 ينبغي علينا أن نكون في مدارسنا قبل الأول من يوليو تاريخ فتح المدارس.

من بورتسودان مرورا ببربر خُِلصت الإجازة ! 

✳️ وحان أوان العودة الى مقر عملي كمدرس في احدى المدارس في كردفان.


✳️وصلت  الى الخرطوم في طريق العودة إلى المدرسة التي اعمل بها  في مدينة الرهد شرق كردفان.


✳️ السفر إلى كردفان باللواري آنذاك كان ينطلق من الموقف الغربي بامدرمان  جوار مسجد فيصل !

زمانٌ بلا موانئ برية ولا  بصات مكيفة وبلا أسفلت !


✳️إنه زمان  صندوق زوادة السواقين الأمراء بحق !  سائق اللوري في ذلك الزمان كان شخص أنيق المظهر و كأنه ذاهب الى مناسبة اجتماعية الجلابية و العمة و المركوب الفاشري  والنظارة بيرسول !!

 و لديه اثنين من المساعدين (مساعد حَلَّة لإعداد الطعام) و ( مساعد صاجات) !!! و "الصاجات" ليست للشية ولا للعواسة. بل هي  كباري لعبور  السيارة عند الوحل في  الرمال !! 


✳️ الساعة الرابعة عصراً.

أنا وحدي في المقعد الأمامي للسيارة مع الامير السائق السيد السواق ( المنقالي) نسبة الى منطقة المناقل. 

السواق يصعد في اللوري ليجمع من المسافرين في الخلف قيمة الأجرة.

امدرمان / الابيض !! الراكب في المقعد الامامي 5 جنيهات ! الراكب في الخلف 2.5( جنيهان ونصف) ! 


✳️ شغل السائق مقعده خلف المقود. أدار ماكينة السيارة ( مجراها ومرساها )! 

✳️ إذا برجل يقارب الخمسين ، لابس عراقي و سروال وشال يلف رأسه  يتأبط  كيسا صغيراً !! يدنو من السواق ، يُسرُّ له حديثاً هامساً ! 

لكن السائق بفظاظةٍ وحشيةٍ يصيح  في وجه الرجل:( لو تبقى سيدها ما حتركب لو ما دفعت الأجرة ) !!


من هذا الرجل !؟ ماذا طلب من السواق !!؟ ننتظر قليلا لنرى ماذا حدث  !!!


✳️ بأدب جم رد الرجل على وقاحة السواق :- 

 (يا اخي قلت لك :-  قريتي تقع  في الطريق. حينما نصلها ليلاً بإذن الله سوف تستلم قيمة الأجرة  قبل نزولي من السيارة )!

✳️ السواق يصر على الدفع مقدماً  !! 


✳️ضاق خلقي  من لؤم هذا (المنقالي ) المغرور  

✳️ طلبتُ من الرجل الركوب بعد ان رميت للسواق مبلغ  ال 2/5 ج في حجره ! 

✳️ قد لا تتصور ، ماذا تعني الأثنين جنيه ونصف في ذلك الزمن !! 


✳️ إنطلقت السيارة ( كنا نطلق  على السيارة تسمية ( العربية أو اللوري) أما " كلمة سيارة دي جابوها لينا المغتربين من السعودية ) !!


✳️ انطلق اللوري متجها الى الجنوب الغربي من ام درمان مرروا بأولى محطات إستراحات سفر اللواري أنذاك   

في قرية  ( العلقة) ! لينحرف الطريق منها غرباً نحو السّندة الثانية في قرية ( شقيق الماجدية ) ! ومنها صوب قرية (الهلبة) حيث سوق رواكيب العشاء  ! 


✳️ نحن في بداية الخريف

ووقتها كانت السحب تدلقُ مطرها كأنها صهاريج ماء خزق الصدأ قواعدها  فتنهمر "لتسرف" 

 (الرهود و الحفائر و التمد و  الخيران والشّقوق و التُرد و الفُول) !!

 كل هذه الأسماء ما هي إلا مواعين أرضية تجمع فيها مياه الأمطار ! ولكل ماعون مواصفاته وصفاته ! و منها على وجه الخصوص ( خور الملًة ) !! 

✳️ علي جهة  الغرب من قرية (الهلبة) التي تناولنا فيها وجبة العشاء !!( عصيدة دخن بحليب مُقنن) ب خمسة قروش !! 


✳️ لندخل بعد منتصف الليل إلي لُجة  خور (الملّة) المشرور مئات الأمتار عرضا. له خرير وزبد  !!! وسمي بالمّلة أظن لأنه (يمٍلُّ) ماكنات العربات ملَّاً حارقاً  ! ( مثل ملّ الفريك) !!!

 

✳️ ساعةٌ بالتمام  والعربة كالمركب تعوم في مياه ذلك  الخور 

بين أنين وشخير  ماكنتها و صرير مفاصلها وهي " تتطوطح"  ذات اليمين وذات الشمال !!!! 


✳️ الركاب المغلوب على أمرهم ، خائضين حتى منتصف قاماتهم  يدفعون العربة الى الأمام

"سُخرةً ولا حسنة لأحد منهم ولا شكر " 


✳️ عند بلوغ اليابسة كانت الملابس "تخر" ماءً !  الطين "يلطخ" الأقدام و الأجسام ترتعد من البرد و الزيفة!!!  

✳️ الحسكنيت الأخضر الفاسخ قناديل شوكه يتربص بالجميع!!!


✳️ تنطلق السيارة، ولكن لها ( صوت  شخير) غير معهود لتتوقف بعد ساعة هامدة فلا صفير لها  ولا نفير و لا صرير ولا شخير  !!!! 

✳️ يعلن السواق ان عطلا" حرق  ( طارة الكلتش)  !! ولابد من اسبير بديل  لها ، إما من ام روابة او الابيض  !!!!(عوووك !! كسرة وملاحها في الريف) !

✳️ خلاص ( سدّتوا وشالت ابو حراز ) !!و سفر الخريف قام لي جِنُّه  !


✳️ لا مناص من  المبيت والمقيل وربما المبيت غدا فوق  العربة ! فالارض يكسو  أديمها نبات الحسكنيت الأكثر لؤماً من سائق العربة بسرائح شوكه وزواحفه !!!


✳️ صعدت مع الركاب سطح العربة ،  كنا ستة عشر ، النوم جلوساً على شحنة جوالات البضاعة  !!!! 

✳️ نصف ساعة مضت  ونحن بين 

 ( كدي زح كراعك شوية ) !!و( نوموا متل  نوم الديك في الحبل ) !! و ( السواق المسنوح دا ،  منقالي شوم ) !!!


✳️ ليس بعيدا نسمع جلبةً  وصياح صبيةٍ ( يلكعون) حميراً !! 

✳️ هل هم مخلوقات فضائية  هبطت من السماء ؟ 

✳️ أم هم جنٌ أسود إنسلّ من باطن الأرض !! 


✳️ فرقة من الحمير براكبيها تحيط بالسيارة  

✳️ في ذلك الزمن لم يعرف الناس النهب المسلح و لا المصلح 

 وأصوات صبية تدعونا :- 

✳️ ( انزلوا هووي  يا ناس واستريحوا  على الحلة) 


✅ (من أين اتى هؤلاء ) ؟؟ 

سؤال إعجاب وفرح واطمئنان. ليس سؤال  يأس وأسيةٍ كما سأل الطيب ود صالح !! 


✳️ معطونين في بلل ملابسنا ! لم نسأل عمن بعث الصبية والحمير من مرقد نومتهم !!! 

✳️ " تلّبنا " علي ظهور الحمير بلا سروج و لا " برادع " مردوفين  " نلكع " في عجل الى مصيرنا المجهول ! 


✳️ عند (كرنك)  طرف القرية أرحنا ركائبنا

✳️ عناقريب على عددنا مرصوصة. ارتمينا عليها كجربان مدبوغة   !!!!


✳️ كفتيرة الشاي باللبن تدور !! ( كُب و ما  تعد ) !!!! 

تلى ذلك أقداح عصيدة دخن، صفراء  فاقع لونها تسر الجوعانين !!!!  

✳️ جبل العصيدة كجزيرة رملية  في بحر من اللبن المغشي بزخة سمن بلدي  !!! 

بعد الشبع النوم يخطفنا عن طرح السؤال الطلسم :-

 ✳️من أتى بنا ؟  والي اين ؟  ومن فعل  كل ذلك ! !!؟


✳️عند صلاة الفجر أرى على ساق شجرة سيال هناك ذبيحة مازالت تحت السلخ !!!! 

✳️ وقبل شروق الشمس كانت ( براريد الشاي و اطباق الزلابية ) تزحف نحو الكرنك من كل أزقة و زواريب القرية ! 


✳️ من بين اهل القرية الرائحين والغادين ، يترأى لي شخص شبيه بصاحبنا الذي ( ماسخه) السائق في ام درمان !!!

سألت احد شباب القرية  عنه !! 


✳️ياااا للعحب !!!! 

قال :- ( إنه فلان، اغني تجار قريتنا ( هشابة المجانين) (نسبة الى قبيلة المجانين في كردفان).حضر معكم في العربة هو الذي ارسل لكم الحمير. وهذه داره. كان بالأمس في ام درمان  لديه عربة هناك في العَمْرة ) !!! 


✳️ كتمت سره الآسر في صدري، حتى أجد اللحظة المناسبة و  أفش به غيظي في  السائق المنفوش غرورا"   !!!! 


✳️الفطور ثم ..

 ( زردة السائق في زاوية غروره) !! ونفس الرجل يخاطبه. والسائق الاعمى لم يدرك أنه ذات الرجل الذي انتهره بالأمس.

قال له الرجل وهو يدفع جوالا :- 

✳️ (في هذا الجوال توجد  " طارة كلتش" خذها و معك المساعد ! اركب الحمار و اذهب انت و المساعد  لتصلح سيارتكم.  وسوف نرسل لكما الغداء. الركاب سينتظرون هنا حتي عودتكم بالسيارة ) !! 


✳️ السائق ( ابو قلباً ميت وغافل) اخذ الجوال ولم يفطن الى من فعل له و به هذا !!


✳️سبحان الله. الرجل اذن تاجر ! بل و أثري أهل  قرية (الهشابة) التي يقطنها اهله من قبيلة ( المجانين) ! كان يصون عربته في ام درمان واحتاج لمزيد من المال، ولذا كان لابد ان يعود على عجل الى قريته  لياخذه !!!!!


✳️ بعد الغداء حضرت العربة بعد صيانتها. واُذِن لنا بالمغادرة 

✳️ انا والسواق نركب في المقدمة. يحضر الرجل وهذه المرة يقف على جانبي وليس جانب السواق ! 

✳️ يخرج كيسا ملفوفا"  ويدفع به لي مشفوعا" بطلاق متلوت ومكعب بعدد نسائه :- 

 ( علي الطلاق بالتلاتة و من نسواني الثلاث تمسك وما تقول كلمة ) !! 

لا حول ( 3 طلقات × 3 نسوان ) !! 

قطعت جهينة طلاقه " لغلغة"  لساني !!!!! 

✳️ ودعنا الرجل  بعد ان دعا الله لنا بالسلامة  


✳️ كان لابد ان افضح سر الكيس الملفوف

✳️ يااااا مجذوب إنها 150 جنيها !!!!!! وراتبي الشهري وقتها كان 18 جنيها و 46 قرشا) يعني مرتب سنة !!!!!


✳️ إلتفتُ إلى السائق قائلا  :-

 (الرجل الذي نهرته في ام درمان 

هو الذي ارسل لك الحمير !وهو الذي انزلنا داره و أكرمنا شاي وعصائد وذبائح !!!!

✳️و هو الذي تكرم عليك بالطارة !

( ان شاء الله تطير عيشك ) !! 


✳️ وهو الذي أثابني 150 جنيها" عوضا" عن الاثنين جنيه ونصف !! ) 


✳️ تمعَّر وجه السائق ( مكوجناً )  بالخزي و الحرح والندم قائلا :- 

( والله تاني.... لو أشّرت لي غنماية ما أفوتها !! )


✳️ يا  أهالي قرية (هشابة المجانين) يحق لكم ان تفخروا جميعا" باصالة و مروءة  و نبل و كرم  و شهامة هذا الرجل.  

__________________________________

إنتهى الدرس البليغ و لم تنتهي دهشتي و اعجابي ببطل هذه القصة. كنت اتمنى أن أحكي قصة هذا الرجل للركاب قبل ان يركبوا في اللوري ثم  أصفع هذا السائق المتغطرس على وجهه امام الركاب حتى يتعلم الدرس!!!!


#ود_الفاتح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاهد عيان جنجويد

قصص جميلة.

هرووووب الأسد