الشاعر الفيتوري
محمد الفيتوري مأساة شاعر وأحزان وطن
يمر اليوم عقد من الزمان على رحيل محمد الفيتوري شاعر السودان .
اعكف حاليا على وضع اللمسات الأخيرة على كتاب عن صديق عزيز ومبدع استثنائي.
اخترت عنوانا فيه بعض كلماته:
محمد الفيتوري ..في زمن الغربة والارتحال
الآن وبعد أن تراجع المشهد الحزين الى بعض ظلال الذاكرة. اطرح السؤال نفسه كالعادة:
إذا لم أكتب أنا؟ فمن ؟
وإذا لم يكن الآن؟فمتى.
لذلك بدا لي أن أتحدث، وأقول، وأروي، بل أوضح وأشرح وأصحح، خاصة أن القول تكاثر، والحديث خرج عن مجراه وموضوعه، والوقائع لم تسرد كما هي بل ابتسرت ، وفي بعض الأحيان جرى تحويرها، ثم أكثر من ذلك تزويرها.
ومع من؟
مع شاعر عظيم سيبقى رمزاً لوطن.
وطن عاش في دواخله. غادر دنيا الناس والوطن بين جوانحه ، ثم أن هذا الوطن ظل معه.. بأفراحه وعذاباته .
في ظهيرة السبت الخامس والعشرين من أبريل، شاءت الأقدار أن أكون في غرفة باردة سجي فيها جثمان الشاعر محمد الفيتوري.
رحت أتأمل الجسد النحيل الذي هده المرض، وتراكمت فوقه السنون.
حدقت في الوجه كثيراً.
رسم الفيتوري وهو يغادر ابتسامة عريضة. إذ كما روت لي زوجته رجات أرماز، بقى ضاحكاً مبتسماً قبل دقائق من زفرات الموت.
عندها قفزت دمعة الى المآقي. رحت أتأمل كيف أصبح الجسد بلا روح .
كان رأيي وقتها أن تدخل زوجته "رجات أرماز" وابنته "أشرقت" ثم نزهة شقيقة رجات التي اعتنت به كثيراً في سنوات مرضه .. لتوديعه بالطريقة التي يرون.
طبعت زوجته قبلة على جبينه باكية حزينة واقتصر الأمر على بضعة ثوان، ثم تركت الغرفة ، وهكذا فعلت شقيقتها نزهة.
عندما جاء دور ابنته "أشرقت" ، وهي بعد شابة في الثامنة عشرة من عمرها آنذاك ، لم تستطع تحمل اللحظة، عانقتني وهي تبكي ثم خرجت مسرعة.
وقتها تحولت الغرفة الى اعصار إنساني ، مشاعر وعواطف أفلتت من كل قيد، اختلط فيها الحب والحزن.
وقفت أمام الجثمان لبرهة وأنا أتأمل تلك الابتسامة التي رسمها الفيتوري وهو يغادر.
قفزت دمعة أخرى إلى المآقي.
بدا لي "الموت" شيئاً غامضاً ومثيراً.
بعدها نقل الجثمان الى سيارة إسعاف، بإتجاه "مقابر الشهداء" في الرباط قرب شاطئ المحيط الأطلسي.
كان ذلك هو المشهد الأخير.
*****
قبل أيام من رحيل الفيتوري ، أتصلت بي زوجته رجات وقالت لي " الأستاذ يسأل عنك، أظن أنه يرغب في وداعك".
أفزعتني الفكرة، وزلزلت كياني.
قالت لي إنه يتألم كثيراً ولا يستطيع أن يشرح ما يحس به.
زادت " لم يعد قادراً على الأكل، ولا يستطيع أن يقول كلمة واحدة، إذ أن لسانه لا يتحرك".
قبل ذلك ، كنت إقترحت نقله الى المستشفى خاصة أن الأرق بات يلازمه.
كانت المشكلة هي كيفية توفير تكلفة المستشفى، إذ لم يكن له أي نوع من أنواع التأمين أو التغطية الصحية، إضافة الى إنعدام الموارد .
نقل الشاعر الفيتوري الى المستشفى وبقي هناك يوماً كاملاً أجريت له جميع الفحوصات، وكان رأي الأطباء أن يعود الى المنزل مع تناول بعض الأدوية.
هكذا كان.
يوم الجمعة 24 أبريل ، وأنا ألقي درساً على طلابي في الدار البيضاء في حدود التاسعة صباحاً تلقيت مكالة هاتفية من "رجات" . أبلغتي أن حالة "الأستاذ" كما كانت تناديه، ساءت كثيراً .
كان إقتراحي أن ينقل فوراً الى المستشفى .
كان يردد الشهادتين ويقول مخاطباً زوجته وشقيقتها بعبارة واحدة " أتعبتكم معي أستميحكم عذراً" .
كنت في تواصل هاتفي مع "رجات" حتى عدت الى الرباط في حدود الثانية بعد الظهر.
في الثالثة تلقيت من "رجات" ، تقول فيه قبل قليل طلب منا الأطباء مغادرة غرفته ، ووصفت حالته قائلة " كان يبحلق في وجوهنا ويقبل أيادينا وهو يردد "سامحوني"، ثم وضع إبتسامة عريضة على وجهه.
في الثالثة والربع خرج الأطباء من غرفته ، وأبلغت زوجته أن محمد الفيتوري غادر الحياة.
أتصلت بي وهي تنتحب وتقول "أخي طلحة صديقك رحل". بقيت فترة لوحدي في حالة وجوم .
تزاحمت الصور والمشاهد ولم تعد الدموع في المآقي .
انتقلت الى المستشفى وجدت "رجات" عانقتها وبكينا سوياً.
كان هاجسي أن تغادر هي وشقيتها المستشفى.
ذهبت مع رجات الى منزلهم في "ضاحية سيدي العابد" جنوب الرباط.
كانت هناك إبنتها "أشرقت" عانقتها. بكينا جميعاً.
قلت لهم سأتولى الآن جميع تفاصيل تشييع الجثمان.
كان رأيي أن يدفن محمد الفتوري حيث فاضت روحه لأن وصيته كانت واضحة "أرض الله واسعه ..أدفن حيث أموت".
في اليوم التالي كنا جميعاً في الموعد، وطلبت من زوجته البقاء في المنزل حتى نفرغ من التشييع والدفن.
أجريت إتصالات مع السلطات المغربية، وكان قرارهم أن المغرب سيتكفل بكل شيء.
*******
ولد محمد الفيتوري في مدينة الجنينة ، في 24 نوفمبر عام 1936، وهو التاريخ المسجل في أوراقه الرسمية.
بعدها نزحت أسرته الى الأسكندرية ، ثم درس في القاهرة قبل أن ينتقل الى الخرطوم في الستينيات، ثم غادر الخرطوم في آواخر الستينيات الى بيروت وبعدها راح يتنقل هنا وهناك حتى إستقر بالعاصمة المغربية الرباط في عام 1984 .
سمعت منه يصف هذه الحالة في حوار أجريت معه عام 1985 قائلاً "حينما أطل الى الوراء وأتأمل مسيرة حياتي، أجد نفسي مثل عصفور غريب، يتنقل من غصن الى غصن، من مسافة الى مسافة، ولا يعرف أين هو بالضبط، عصفور يبقى فوق أحد الأغصان لساعات، لأيام، لأسابيع، ثم يطير...أنا ذلك العصفور غير المستقر".
لم يكن يذكر الكثير عن والده أو والدته "عزيزة" . قال لي مرة عن والده " "أنا قلق.. وربما أظل كذلك، وأعتقد ان نبؤة لوالدي أثرت في كثيراً، مرة قال لي والدي إنك ستقضي حياتك غريباً عن وطنك".
كانت له شقيقة لكن لم يكن يتحدث عنها كثيراً.
الشخص الذي أثر في شخصية محمد الفيتوري هي جدته "زهرة" وهي والدة أمه، يقول عنها إنها كانت "جارية" أهديت الى جده من أمه وتزوج بها وكانت والدة الفيتوري.
هذه التراجيديا في حياة الجدة هي التي شكلت البعد الأفريقي في شخصية الفيتوري.
هذه الجدة هي التي أوحت له بالإنتماء الى القارة . كان مشدوداً كثيراً لقصتها، وكثيراً ما سمعته يتحدث عن هذه الجدة .
********
السودانيون لا يقرؤون محمد الفيتوري ويتذوقونه شعره فحسب، لكنهم يرددون دوماً أشعاره.
إنه شاعرهم الذي يحبونه.
ما أجمل كلمة" حب" آه منها، هي ذي الكلمة الفاتنة القاتلة.
عشقوه وهو يقول:
شحبت روحي، صارت شفقاً
شعت غيما وسنا
كالدرويش المتعلق في قدمي مولاه أنا
أتمرغ في شجني
أتوهج في بدني
أحبوه وهو يغني وتغنوا معه:
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت برآياتي
وطبولي الآفاق
عشقي يفنى عشقي
وفنائي استغراق
مملوكك…. لكنـي
سلطان العشاق
كتب محمد الفيتوري 28 مجموعة شعرية .
كتب عن قضايا حيوية ومهمة لحياة الإنسان المعاصر، مشاكله ومعاناته.
كتب عن الإنسان الأسود وظروفه المأساوية، كتب عن القضية العربية وتفاعلاتها في مختلف الساحات.
محمد الفيتوري هو إبن الإيحاءات والرموز، والعالم المثيلوجي المليء بالإضاءات والألوان.
هي الوان ممتزجة، سوداء وبيضاء،افريقية وعربية.
هذا هو البهو الرائع الذي تحرك خلاله.
أمتص بخلايا جسده، وعيونه وحواسه، وحاول البحث عن ذاته.
عندما كتب دواوينه الأربعة الاولى "أغاني افريقيا" و"عاشق من افريقيا" و"أذكريني يا افريقيا" و"أحزان افريقيا". كان يبحث عن هذه الذات، بل كان يقف في مكان منعزل بالنسبة لمجموعة الشعراء المعاصرين.
حين كان الشعراء ينزفون منطوين على جراحاتهم الصغيرة، كان يصيح شعراً " استيقظي يا افريقيا".
سخر منه كثيرون.
يقول هو نفسه" كنت أهتف يا أفريقيا انا زنجي، وكنت اتعمد ذلك لانني كنت انادي عمقاً نفسياً لا يمكن أن يدركوه".
كان آخر دواوينه له " بعنوان" عُرياناً ..يرقص في الشمس".
نقرأ في قصيدة اختار لها عنواناً يقول "تحديق في صورة قديمة" :
ابتسم للحضور ابتسم للغياب
ابتسم للبكاء ابتسم للعذاب
ابتسم للجنون ابتسم للخراب
ابتسم للغزاة وهم يُقبلون
للعبيد الطّغاة وهم يزحفون
للطّغاة العبيد وهم يبطشون
****
كان محمد الفيتوري يطلب مني ونحن نجلس في مقهى "باليما" بالرباط أو في مقهى الوداية الذي يطل على الأطلسي أن أتذكر كلمة، في بعض الاحيان.
لكن إقول الآن مزهواً أنني أول من سمع منه قصيدة "عرس السودان".
سعيداً أقولها .
ذلك المساء أتصل من هاتف منزله، إقترح أن نتناول وجبة العشاء سوياً في شقته في حي (حسان) .
كان الفيتوري يلقي أشعاره بكل حواسه .
قال لي كتبت قصيدة حول هذا الذي يحدث في السودان ( إرهاصات الإنتفاضة) سأرسلها الى الفنان محمد وردي و إريدك أن تسمعها.
ثم راح يقول :
في زمن الغربة والإرتحال
تأخذني منك وتعدو الظلال وانت عشقي حيث لا عشق يا سودان
إلا النسور الجبال يا شرفة التاريخ
يا راية منسوجة
من شموخ وكبرياء الرجال
( في وقت لاحق عدل هذا الشطر ليصبح من شموخ النساء وكبرياء الرجال)
***
لمن تُرى أعزف أغنيّتي
ساعة لا مقياس إلاّ الكمال
إن لم تكن أنت الجمال
الذي يملأ كأسي فيفيض الجمال
***
فداً لعينيك الدماء
التي خطّت على الأرض
سطور النضال
داست على جلاّدها
وهي في سجونه
واستشهدت في جلال
***
فداً لعيني طفلة
غازلت دموعها
حديقةً في الخيال
شمسك في راحتها
خصلة طريّة
من زهر البرتقال
والنيل ثوبٌ أخضرٌ
ربّما عاكسه الخصر
قليلاً فمال
(عندما سمعت هذا المقطع، قلت له هذا كلام يزلزل )
ثم استطرد:
كان اسمها أم درمان
كان اسمها الثورة
كان العرس عرس الشمال
كان جنوبيّاً هواها
وكانت ساعة النصر
إكتمال الهلال
فداً لك العمر
ولولا الأسى
لقلت تفديك
الليالي الطوال
فداً لك العمر
عندما سمعت القصيدة مكتملة، لم أقل شيئاً.
وجمت.
******
كتب محمد الفيتوري شعراً جميلاً .
كتب لأنه يعرف كيف يكتب.
قال لي محمد الفيتوري مرة عن الكتابة "أكتب لأطهر ذاتي،لأقوم بعملية تطهير ذاتي من عقدي ورواسبي، لأقوم بعملية صهر لعلاقاتي النفسية والعاطفية. أكتب للإنسان الذي أعيش معه واشاركه هذه الحياة. أكتب لمزج الإنفعالات والخواطر في حلم شعري، في إيقاعات، في صورة، في رؤيا. أكتب لأنني أقول كلمة للآخرين، واسعى لتسجيلها لعلهم يقرؤونها. أنا أكتب للقادمين".
***
كان هناك مشروع مع محمد الفيتوري لكتابة كتاب عن المحطات الرئيسية في رحلته.
اتفقنا أن يكون ذلك من خلال التوقف عند خمس مدن شكلت محطات فاصلة في حياته.
الاسكندرية، حيث مراتع الصبا.
القاهرة وهي نقطة الإنطلاق في عالم الشعر الفسيح.
الخرطوم في ستينيات القرن الماضي. بيروت في الثمانينيات. الرباط التي جاء اليها في منتصف الثمانينيات.
كانت هذه هي المدن في حياته.
عندما قلت له ماذا عن "طرابلس". أجاب محتداً عندما يكون غاضباً " أرجوك لا أرغب في تقزيم نفسي".
الآن أصبحت هذه المادة جزء من كتابي:
محمد الفيتوري ..في زمن الغربة والارتحال
******
سيفتقد الناس في محمد الفيتوري الشاعر والمبدع والكاتب والإعلامي .
بيد أنني سأفتقد الفيتوري، الإنسان والصديق العزيز.
عندما صدر ديوانه " شرق الشمس غرب القمر" في يوليو عام 1987 أهداني نسخة كتب عليها بخط يده "إلى أخي …تجسيداً لهذا الذي بيننا من علائق في الصداقة والفكر والمواطنة".
هي بالفعل "الصداقة والفكر والمواطنة".
كان محمد الفيتوري في حياته طائراً مغرداً ، أقرب ما يكون الى طائر "الكروان" شبه المنقرض ، يطرب الناس بأشعاره.
بعد رحيله ستبقى كلماته تصنع المتعة والوعي، معبرة عن وجدان الناس .
شاءت الصدف أن تطلب مني زوجته رجات ، كتابة كلمات تكتب على شاهد قبره.
قالت لي بنبرة حزينة صادقة " لو كان بيننا لطلبها منك شخصياً".
منحتني زوجته هذا الشرف العظيم.
كتبت التالي:
محمد الفيتوري شاعر افريقيا.
ولد محمد رجب مفتاح الفيتوري بمدينة الجنينة في السودان
في 24- 11- 1936
وتوفي بالرباط
في 24-4-2015
********
لا تحفروا لي قبراً
سارقد في كل شبر من الارض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبراً
وأنا من؟
سوى رجل واقف خارج الزمن
كلما زيفوا بطلاً
قلت: قلبي على وطني
*** ****
كان الفيتوري في حياته أكبر من الحياة.
...وسيبقى الفيتوري بعد موته أكبر من الموت.
منقول
**********
تعليقات
إرسال تعليق